الدعوة

 

أتساءل لماذا يفضل الناس أن يتم التعامل معهم من خلال مجموع عن أن يتم التعامل معهم بشكل فردي؟ هل يفضلون هذا لأن الضمير أكثر شئ مزعج في الحياة، أهوسكين حاد يخترق الأعماق؟ نحن نميل لأن نكون "جزء من مجموعة" أو لـ"تكوين قطيع"، وذلك لأنه لو كنا جزء من مجموعة فهذا يعني "وداعاً للضمير". لا يمكننا أن نكون اثنين أو ثلاثة – مثلاً "الأخوين ميلر وصحبتهم"- ويكون لنا جميعاً ضمير واحد. إن الشئ الوحيد الذي تكفله المجموعة هو إيقاف عمل الضمير.



إن ما يحدث في حالة انشغال الإنسان بالآخرين يمكننا تشبيهه: بإنسان يأكل الخس قبل أن يكتمل نمو قلب الثمرة، ولا يدرك هذا الإنسان أن القلب الطري الهش طعمه ألذ كثيراً من الأوراق. نفس الشئ في مجال الروحيات، الانشغال بالآخرين، والتركيز عليهم، والتخبط يميناً ويساراً ، يجعل من المستحيل على الفرد أن يكون "ذاتاً"، أن يكون مسؤولاً، أن يكون "نفساً حية". إن كل إنسان يقضي حياته محاولاً أن يكون مثل الآخرين يكون قد أهدر حياته.

 

إن الله يهتم حتى بالعصفور، بالذبابة، بالحشرات السامة، ليست حياتهم بحياة مهدرة أو منسية. ولكن تلك القطعان من المقلدين، هي ما يمكن أن يُسمى بالفعل حيوات مهدرة.

 


إن الله رحيم جداً بنا، وقد بين لنا محبته حتى أنه يريد أن يكون جزءاً من حياة كل إنسان. إنها لخيانة لله أن نرفض كل هذا ونفضل أن نكون مثل الآخرين، وعقوبتنا هي أن يتجاهلنا الله.

فبتكويننا جماعة، بذوباننا في القطيع، لا نتجنب فقط الضمير وإنما الشهادة للمسيح أيضاً. ولذلك يحكم الخوف من الآخرين العالم، فلا يجرؤ أحد أن يكون مختلفاً، الكل يختبئ وراء التجمعات. إننا عادة ما نحمي أعضائنا الحساسة حتى لا تكون في اتصال مباشر مع العالم الخارجي، لذلك من هم مثلنا من البشر العاديين يخافون من أن يكونوا على اتصال أو تعامل مباشر مع الأبدية، وبدلاً من ذلك نعتمد على التقاليد وآراء الآخرين، ونرضى بأن نكون جزء من القطيع ونسخ مكررة، لنحمي أنفسنا من المسؤولية الفردية ومن الحقيقية.

يمكننا قياس الاستقلالية الحقيقية للفرد بهذه الطريقة: إلى أي مدى يمكن أن يحتمل هذا الفرد البقاء وحيداً بدون أن يكون جزءاً من الآخرين! إن الشخص الذي يحتمل الانفصال عن الناس وعن هذا "الخلاط الاجتماعي"، فهو لا يحاول أن يرضي الناس، فالله لا يستخدم هؤلاء المنافقين الذين يحاولون إرضاء الناس. إن الفرد المستقل، وهو أي إنسان يحاول أن يلتصق بالله، لن يستطيع تجنب الصدام مع الناس، لأنهم سيسيئون فهمه، فالله ليس صديق محبب لهذه القطعان البشرية.

 

أحد القواعد الأساسية في العالم الإنساني" "أن أطلب مساعدة واستشارة الآخرين". أما المسيح فيقول: احذروا من الناس! فمعظم الناس لا يخافوا من التمسك برأي خاطئ، بل يخافون بالأكثر من أن يكونوا وحدهم في هذا الرأي. في العالم المادي الماء يطفئ النار، كذلك أيضاً في العالم الروحي "الكثرة" تطفئ النار الداخلية ، فلذلك احذروا من الانخراط في القطيع.

 

 

 

طبقاً لما جاء في العهد الجديد؛ فأن تكون مسيحياً يعني أن تكون مِلحاً. فالمسيحية تطرح هذا السؤال على كل "فرد": هل ترغب في أن تكون مِلحاً؟ هل ترغب في أن تضحي بنفسك بدلاً من أن تكون جزءاً من الحشد الذي يسعى أن يستفيد من تضحيات الآخرين؟ هذا هو ما يجعلك مختلفاً: أن تكون مِلحاً ولا تذب في الحشد، أن تضحي بنفسك لأجل الآخرين وألا تترك الآخرين يضحون بأنفسهم نيابة عنك. بين هذه المفارقات تكمن الأبدية.

 

 

 

إن أكبر أخطاء الجنس البشري هي أنه لم يعد هناك "أفراد" بعد الآن، فقط "تجمعات". لقد انقسمنا مثل كتاب قديم مهترئ انفصلت صفحاته وبدأت في التساقط. لقد تفككنا، ففهمنا للأمور وخيالنا أصبح مختلف وغير مترابط، فأصبحنا حفنة من المتخاذلين نسعى فقط لرضا الناس ولا يمكننا أن نتجنب الدوار الذي يسببه الخوف من الآخرين وسط دوامة من الحركات والتجمعات. ما القدر الذي أحتاجه كي أصدق أن حياتي ليست منسية من الله وأن هذا كافٍ!!

 

 

 

إن رغبة الإنسان في الاختفاء وسط الحشد، كي يكون جزءاً صغير من المجموعة بدلاً من أن يكون فرداً مستقل، صادرة عن أنه خُدِع ويظن أنه بهذا الشكل سوف تكون حياته أسهل. لكن، في الواقع، هذا يجعلها أكثر استهتاراً. إن كل إنسان منا مسؤول عن ذاته، فلا يمكننا أن نتشارك الاختبارات الشخصية مع بعضنا البعض، فيجب أن يكون لكل فرد اختباراته مع الله، ثم يعيش فيها بصرف النظر عن الآخرين. في الأبدية سوف ينفصل كل إنسان عن الآخرين، ليكون فرداً مسؤول عن كل تصرفاته، أما من يظن أنه آمناً ومختفياً وسط القطعان فهذا مخدوع.

 

 

 

سورين كيركجارد

 

من كتاب "استفزازات